الإجابة من خارج العقل الهوياتي

سؤال الهوية مطروح  منذ القدم في السودان مع بداية ظهور التقسيم الإجتماعي الإقتصادي في المجتمعات السودانية الى سادة ورعايا واتباع ، وظهر هذا التقسيم في كل مؤسسات المجتمع  بداية بالمؤسسة القبلية والدينية ومؤسسات السلطة الإقطاعية وحتى المؤسسات الحديثة القائمة حالياً. كان هذا الحال قائماً في الممالك السودانية القديمة  وفي المقرة وعلوة مروراُ بالفور والفونج وإستغل الإستعمار هذا التركيب الإجتماعي المشوه لأقصى الحد مرتين في التركية وفي الإستعمار البريطاني فأورثنا دولتنا الحالية.هذا التقسيم العرقي الإجتماعي الإقتصادي يعيد إنتاج المجتمع كل مرة في شكل سادة وأتباع مرتبين في فئات ومجموعات بحسب التراتب العرقي الثقافي الاجتماعي الاقتصادي للمجتمع بحيث ان مجموعة يتم دفعها بهوياتهم المميزة ليدعمو السلطة، ومجموعة يتم خداعها بأن هوياتهم رديئة ليخضعوا للاستغلال، وكلهم مستغلين من قبل مراكز السلطة، من قبل السادة. تقوم مراكز السلطة ، يقوم السادة في مثل هذه المجتمعات التي ينبني هيكلها الإقتصادي الإجتماعي على التقسيم العرقي الإجتماعي الإقتصادي بإنتاج أيدولوجيا سائدة تقوم بسجن االمستَغَلين من الهوية المميزة ومن الهوية المبعدة في السؤال الزائف، وهو سؤال الهوية، فينشغلون إما كلاً منهم يمجد هويته ويزري بهوية الآخر، وإما تبحث جماعات منهم بقلوب مخلصة وآمال عريضة عن "هوية توافقية" تأخذ من الهويتين مثل مدرسة "السودانوية"، أو تقوم جماعات أخرى بالبحث والتنقيب عن "هوية أصلية" مفترضة لم يدنسها الإستغلال والقهر والإنقسام الإجتماعي مثل دعاة العودة إلى "كوش". كل هذه الإجابات عن سؤال الهوية مسجونة في صندوق الأيدولوجيا السائدة (طريقة التفكير السائدة) للقاهر المستغل، للسادة المكوك والعمد والشراتي والمقاديم والنظار والأرابيب والشيوخ،  تظهر هذه الأيدولوجيا (طريقة التفكير) في شكل عادات وتقاليد واعراف بديهية يبدأ تلقينها من الأسرة ويمارسها الكل بدون أن يفكر فيها لتعيد إنتاج المجتمع مقسماً عرقياً من جديد.
الرد على أسئلة الأيدولوجيا السائدة بغرض تغييرها لا يتم من داخل صندوقها، والرد على سؤال الهوية لا يتم من داخل الرؤية الهوياتية لتقسيم المجتمع، وإنما يتم من الخارج برؤية ترى الجميع، بجا وفور ونوبا وزغاوة وعرب، ترى جميع السودانيين كمواطنيين يستحقون أن تتعامل معهم كل المؤسسات في الدولة إن كانت مؤسسات تقليدية، مدنية أو حكومية بإعتبارهم متساوين في المواطنة ولهم نفس الحقوق. الإجابة على سؤال الهوية بإجابة من داخل عقل الهوية هو دفاع مهزوم لأنه يتكئ على حجج القاهر المستغل، حجج السادة، وإن تبنيت حجج خصمك فحتى وإن هزمتهم فسيستمر مشروعهم لأنك سبق وأن تبنيته. الإجابة لابد أن تكون من خارج عقل الهوية بطرح سؤال المواطنة والعدالة والمساواة حتى يتحول الدفاع المهزوم لهجوم ناجح. الإجابة هى مجتمع مؤسساته لا تقوم على التراتب الهوياتي، لا تقوم على التراتب العرقي الإجتماعي الإقتصادي.
التراتب العرقي الاجتماعي الاقتصادي ليس موجوداً فقط مناطقيا، بل هو موجود حتى داخل القبيلة الواحدة، بل حتى داخل القبيلة الواحدة من المجموعات والفئات للهويات المستبعدة، حيث ان اسر الارابيب والشراتي والعمد والنظار ذوي الاصل النبيل ومن نفس اعضاء القبيلة يتداولون السلطة مدى الزمان حتى في قبائل ذوي الهويات المقهورة، وذلك لأن البناء القائم على التراتب العرقي الإجتماعي الإقتصادي يسود في النظام من أكبر وحدة وحتى أصغر وحدة فيه ويشمل الهويات السائدة والهويات المسودة.
اما بالنسبة للمثقفين الذين يعتقدون ان الانحياز "لهوية اصيلة ما"هو الاجابة فهولاء وقعوا في فخ القاهر،وعوض ان ينادوا بالمساواة والعدالةالاجتماعية عرقيا واجتماعيا واقتصاديا وبترك الصراع السلمي الديمقراطي للهويات في المجتمع ويبعدوه عن المؤسسات وينادو بحيادها تجاه السودانيين، بعوض ان يبعدوا عن إجابة سؤال الهوية ويجيبوا السؤال الحقيقي سؤال مساواة المواطنين السودانيين، وقعوا في فخ الايدولوجيا السائدة وبذا حتى لو صاروا في السلطة سيعيدون انتاج نفس المجتمع المشوه فقط بمركزية هوية اخرى، هويتهم هم.
الهوية عندي هى ما يعتقده الفرد والجماعة عن نفسها وليس لهذا علاقة بالعلم والحقائق الموضوعية،إذا إدعى فرد أو جماعة أنهم عرب فلن تغير الحقائق الموضوعية أو دراسات علم الوراثة والجينات أو الأحداث التاريخية رأيهم في هويتهم، وليسوا مطالبين بذلك البتة، فقط عليهم أن لا يقوموا  بالإستعلاء على السودانيين الآخرين وبإحتكار المؤسسات والمصالح الإجتماعية الإقتصادية بناءاً على هويتهم المدعاة.، فإن لم يفعلوا فلا يهمني إن قالوا إنهم عرب أو إغريقيين حتى!.
العقل الهوياتي يبحث عن إجابة سؤال الهوية من داخل الهوية، والعقل الجدلي يجيب سؤال الهوية ضمن إجابة السؤال الأشمل: ماهو سبب التفتت الإجتماعي الإقتصادي لدولتنا؟ عندما ندمج كل مؤسساتنا التقليدية والحديثة تحت سلطة الدولة، عندما ندمج كل إقتصاداتنا في إقتصاد واحد، عندما يتم توزيع الناتج الإقتصادي بصورة عادلة للأفراد والمؤسسات بحيث أن لا مؤسسة لها هوية مميزة تأخذ أكثر مما تستحق ولا هوية رديئة يتم إستبعادها في الإجتماعي وفي الإقتصادي، في دولة الحريات والحقوق والمواطنة، عندها بدل التفتت والتمزق سيظهر الوطن والهوية الوطنية وفيها ستمحي تناقضات الهويات الجزئية المتصارعة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الطرف الثالث في حرب الخرطوم

انطفاء

بيدي لا بيد عمرو