ما بعد العلمانية، ما بعد السلفية


         في أوروبا القديمة وفي ظل سيادة النظام الإقتصادي الإجتماعي الإقطاعي المبنى على تراتب العرق والقداسة الدينية تأسست الدول في هذا الفضاء  التقليدي ومؤسساتها منحازة لأصحاب العرق النبيل ولأصحاب القداسة الدينية. كانت طرائق التفكير السائدة سلفية في كل مناحيها وبالذات في الرؤية المسيحية السائدة . 
عندما عجزت النظم الإجتماعية الإقتصادية بطرق تفكيرها السائدة في الإجابة على أسئلة حوجات الإستقرار والتطور التي تطرح من داخل النظم ومن محيطها، فاقمت النخب النبيلة والمقدسة، في وبمؤسسات النظام ، من قمعها وقهرها وتصفيتها لكل متذمر ولكل مختلف وتمادت طرائق التفكير السائدة في سلفيتها فدخلت حتى فيما بين الفرد وما يعتقده، ما بين الفرد وجسده.
في ظل هذا القمع المتمادي للحريات والحقوق وفي ظل عجز النظم الإقتصادية الإجتماعية بمؤسساتها عن تقديم حلول للأزمة وإجابات لأسئلة المستنيرين من منتقدي الرؤية السلفية من خارج الدين أم من منصة المسيحيين المؤمنين،  برزت رؤى دينية مسيحية متجاوزة للسلفية السائدة جعلت تجاوز التحديث لسلفية باقي المجالات ممكناً بدفع من الأيدولوجيات المنطلقة من الرؤى الدينية الجديدة والأيدولوجيات المنطلقة من خارج الدين.
بحجم قمع وقهر السلفية الدينية والإجتماعية، أغرى الإنتصار المدوي للأيدولوجيات المنطلقة من خارج الدين بعض النخب العلمانية المنتصرة على تمديد العلمانية، لا على مؤسسات الدولة بحيث يتم إبعاد التحيزات الدينية والعرقية والثقافية لتصبح دولة المواطنة والحقوق والحريات ممكنة فحسب، ولكن حُرم التعبير الديني حتى على المجال العام وتعبير المجتمع الحر عن صراعه وجدله المستمر والذي يقود تطوره. وتم إستبدال العسف السلفي الديني بعسف سلفي علماني.
من هنا فأنا أفهم ما بعد العلمانية كحلقة في تطور الحداثة الأوروبية جاءت تستعيد للدين المؤنسن دوره في المجال العام وتقلم أظافر السلفية العلمانية. وهنا أكرر: الدين المؤنسن والذي ينسجم مع شروط الحداثة وليس الرؤية الدينية السلفية والتي تم نفيها بالعلمنة وبالتحديث الديني.
هنا في السودان أعجب ممن يرددون مقولات مابعد الحداثة الأوروبية بخصوص استعادة دور الدين المؤنسن في المجال العام بعد نفيه من قبل العلمانية في حداثة اوروبا، وهم يتجاهلون عمداً بأن الرؤى السلفية للدين عندنا متمددة في الدولة وفي المجال العام والخاص. مثل هذا الحديث لن يحقق سوى استمرار إعادة إنتاج الرؤية السلفية السائدة ويهزم كل إمكانية لرؤية دينية حديثة.
يشابه هذا الموقف مع الفارق، موقف اليسار والذي في خضم هجومه على اوروبا الراسمالية ونظام السوق الحر يهاجم على البيعة اللبرالية (الحريات والحقوق)، مع أن عماد تغيير مجتمعنا السوداني السلفي الوصائي الأبوي هو أنسنة المؤسسات والمجتمع لإطلاق حريات الفرد من قهر التحيزات الإجتماعية والدينية والإقتصادية.
في الحالتين أتأمل بإعجاب مكر الأيدولوجيا السلفية السائدة، التي تذهل الإسلاميين المجددين واليساريين عن الواقع السوداني وعن القهر والقمع الذي يطال السودانيين تحتها، فيعجب الإسلامي المجدد بما بعد العلمانية بدون أن يبذل جهداً لتجاوز سلفية الواقع الإقتصادي الإجتماعي، ويهاجم اليساري الحريات الفردية أو في أحسن الأحوال يتجاهلها بإعتبارها إما خصيصة اوروبية أو من النقائص الملازمة للنظام الرأسمالي. في كل الأحوال الأيدولوجيا السلفية السائدة متمددة بإطمئنان واليسار واليمين يدافع عنها فيما يحسب انه من صناع التغيير. 
طريقة التفكير السلفية السائدة مُهَددة بعلمانية الدولة التي تفكك الإنحياز الديني والعرقي والثقافي من المؤسسات ولذا تهاجم الإرث الإنساني للعلمانية  بإعتباره الكفر والطاغوت، وتحرك الإسلاميين المجددين ليبشروا بأوبة الغرب الكافر مرغماً لحظيرة الدين مع ما بعد العلمانية. وكذلك هى مُهَددة بالحريات والحقوق ولذا تحرك اليسار لمهاجمة الإرث الإنساني لللبرالية بزعم أنها أساس النظام الرأسمالي الغاشم.
اذا اعدنا بناء مؤسسات نظامنا الاجتماعي وحيدناها تجاه التحيزات العرقية والثقافية والاقتصادية والقداسة الدينية،عندها سيكون لنا مجتمعات روحية لا تستخدم الدين لأفناء الاخر المختلف سعياً وراء تجانس عقدي متخيل، وإنما تمارسه لبناء التعاطف والتعاضد الانساني.
مشكلتنا ليست في محاولة المزاوجة بين روحانيتنا المزعومة وحداثة الغرب،مشكلتننا هى في استنقاذ انساننا من تحت ثقل السلفية الاجتماعية والثقافية والدينية التي تسحقه بالتحيزات .
لما لا نبدأ من حيث إنتهى الأخرون؟
لما لا نؤسس لدولتنا الحديثة بالمزاوجة بين ما بعد العلمانية وما بعد السلفية معاً؟
بين علمانية إنسانية مؤسساتية ودين مؤنسن في المجال العام؟
لكل أن ينطلق حسب رؤاه من منصة دينية أو من خارج الدين لتحقيق الهدف الموحد: دولة سودانية حديثة.
مجتمع "ما بعد العلمانية" ماذا يعني ذلك؟ بقلم يورغن هابرماس 
 

تعليقات

  1. تحياتي
    تعامل بعض دعاة السلفية الدينية مع مفهوم ما بعد العلمانية ، ومع النقد العنيف لوضعية الحداثة وموقفها من الدين بعقلية شهد شاهد من أهلها ، بنفس منطق شيوخ الإعجاز العلمي الدجالين . فعندما نشر الحوار بين هابرماس والبابا بينديكتوس الذي كان كاردينالا اصلاحيا حينها هلل المتدينون في الغرب لمقولة هابرماس ، وتلقفها الإسلاميون عندنا منزوعة حتى من خارج سياقها في الحوار . إذ لا علاقة بين كاثوليكية البابا بنديكتوس المؤنسنة ومسبحية ما بعد الإصلاح الديني مع الاسلاموية السلفية الدوغمائية السائدة عندنا . ولا علاقة بين الدول الغربية الحديثة العلمانية الديمقراطية مع دولنا التي لم تعرف لا الديمقراطية ولا الإصلاح الديني ، فكيف يرددون دعوة إعادة الدين للفضاء العام. بينما الدين عندنا يغلق ويحتل كل الفضاءات . أين هو المجال العام المعلمن لنعيد دور الدين فيه ؟

    ردحذف
  2. بالضبط يا احمد الشريف، بالضبط ... دمت

    ردحذف
  3. مقال كبسولي ممتاز

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الطرف الثالث في حرب الخرطوم

الجنجويد في نادي نخبة الخرطوم

هل هناك ضرورة للعلمانية في مجتمعاتنا؟