القتل نقداً

(لا خَيْلَ عِندَكَ تُهْديهَا وَلا مالُ فَليُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحالُ)
 المتنبئ
 
النقد في رأيي يستنطق النص، الظاهرة أو المشروع لتوضيح جذوره العميقة الخفية وحركته نحو الإكتمال، يفكك النص/الظاهرة/المشروع في سكونه ليبين ما قاله وما كان يقصد أن يقوله وما عجز عن قوله وما سكت عمداً عن قوله، وفي حركته يهدف النقد للإضاءة والكشف عن إحتمالات الإكتمال. وهو لا يرى ويركز فقط على موضوع نقده، ولكنه يستصحب معه الصورة الكبيرة للمشاريع الإبداعية أو السياسية أو الإقتصادية أو العلمية على حسب موضوعه ليساهم في إثراء هذه المشاريع.

 النقد عندي لا يصدر إلا عن محبة لموضوع النقد، ويتناول الناقد مواضيعه بنفس شغف الفيزيائي أو الأحيائي أو المهندس أو الجغرافي أو المبدع لمواضيع بحثه، وفي سعيه لتفكيك النصوص/الظواهر/المشاريع بي يخلق النقد نص موازي غارق في جماله الخاص ومفتوح على تأويلاته الخاصة.

 بالمقابل في طريقة التفكير السائدة في السودان، يتقدم أصحاب السلطات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية ليس لمنتوجهم ولا لمشاريعهم الطموحة ولكن لميزات ورثوها ولخصائص كامنة في مؤسساتنا الموروثة والتي ويا للسخرية حتى الولاية والقرب من الله تجعلها إحتكاراً ووراثة تسرى بالنسب فما بالك بالإقتصاد والسياسة. القدرات الإبداعية لا تورث (ولله الحمد والمنة) ولكنها تزدهر وتجد الرعاية في البيئات التي يحفها الأصل والنسب الجليل والتخفف من أصر الإحتياجات المادية والعلاقات المفتوحة والأتباع المستعدين للتصفيق حتى للقحة المموسقة (وأهلنا بي يقولو القحة ولا صمة الخشم).

 في مشهد إستاتيكي جامد وساكن وغير مفتوح مثل هذا تموت المبادرات وتؤاد المشاريع وينطفئ المبدعون تحت وطأة التدمير الذاتي والرئاء للنفس ولا تتقدم إلا المشاريع التي يحملها الشيوخ والأرابيب (أو من يرضون عنه) وتتماهى مع السائد أو تسعى لتطويره حتى يستمر في الحياة وحتى يستمر أهل السلطات في السيطرة.

 في مثل هذا المشهد الذي يغلق الأبواب على المبادرات وإنجاز المشاريع ليس هناك من سلاح يشهره من يريدون التقدم للأمام ونيل رتبة الشياخة والزعامة والأرببة (من أرباب) إلا سلاح الشناف والتبخيس ، وهو سلاح لا يستهدف أبداً مشروع أو ظاهرة لتطويرها أو تقديم مشروع أو ظاهرة بديلة، بل يستهدف الشناف والتبخيس (ويكون أجمل وأحكم عندما يخلط التناقض الموضوعي بالذاتي الملفق)يستهدف أصحاب المشاريع ذوي الحظوة والرأسمال الإجتماعي/الثقافي/السياسي/الإقتصادي، يستهدف أصحاب المشاريع أنفسهم لقتلهم قتلاً معنوياً وركلهم وهم غارقون في جراحهم حتى يلفظون أنفاسهم الأخيرة وسط الصراخ المسعور للجماهير المهتاجة بلذة سقوط المثال.

بعكس الشناف والتبخيس يسعى النقد ويعمل في إطار شامل، في مشروع كبير ولذا يسعى إما لزيادة ديناميكة المشاريع المطروحة وإما بطرح مشاكلها لتفاديها في المشاريع الجديدة، ولكن يهم النقد أن تبقى كل المشاريع حية ومفتوحة للإحتمالات، ففي النهاية كلها تصب في إطار المشروع الكبير، وبالنسبة لي هو مشروع الحداثة.

هناك في الآخر سؤال مهم: لا يمكن في رأيي أن نسعى لقتل مبادرينا في كل المجالات بزعم أننا لا نريد أن نصنع شيوخاً وزعماء وأرابيب جدد، بل يجب علينا أن نفتح الباب لكل المبادرات، فالحداثة فيها المشاريع المبدعة والمشاريع الجيدة والمشاريع الرديئة،كما في حقبتنا الحالية والحقب السابقة. يجب أن نفتح الباب لكل المبادرين والمنتجين بحيث تكون المبادرات والإنتاج من الكثافة بحيث لا تعطي المبادر والمبدع والمنتج من السلطات إلا ما يناسب جهده وإبداعة، ويجب طبعاً إن ننفك من روح الحوار تابع الشيخ والجماهير المصفقة لمن يتوجون مرة واحدة وللأبد ولا يخضعون للمراجعة والنقد.

وأهم ماقد يتمخض من كتابتي هذه هو أن ما يهمني ليس فقط المبادرين والمبدعين كأفراد، ولكن ما يهمني كثيراً هو قيام المؤسسات الحداثية في كل المجالات، المؤسسات التي ستتبنى قيم الديمقراطية والحرية والنقد المحب، والتي ستعيد إنتاج مبادرينا ومشاريعنا بأكثر وباحسن مماهو موجود في حاضرنا.

تعليقات

  1. "النقد المحب":
    "يخلق النقد نص موازي غارق في جماله الخاص"
    كده النقد يا عمده محتاج لي متمكن و مبدع صاحب اهداف سامية.

    ردحذف
  2. ويتناول الناقد مواضيعه بنفس شغف الفيزيائي أو الأحيائي أو المهندس أو الجغرافي أو المبدع لمواضيع بحثه
    دا كلام جميل جدا

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الطرف الثالث في حرب الخرطوم

انطفاء

بيدي لا بيد عمرو